السبت، 12 أبريل 2014

ملوك الأردن والتآمر الأبدي ضدّ الحقوق الفلسطينية… !؟

ملوك الأردن والتآمر الأبدي ضدّ الحقوق الفلسطينية... !؟
 مصطفى قطبي

تفيض الذاكرة العربية بمشاهد الذين استرزقوا على حساب القضية الفلسطينية، وبينهم من باع واشترى بإسمها وفاوض أحياناً على التفريط بالحقوق الفلسطينية سراً وعلانية، تحت شعارات الدفاع عنها، ورسمت له أدوار وعقدت صفقات التنازل عن الحقوق وقدم وعوداً بتصفية ما تبقى من رمزية للقضية وتبجح بالتشفي، برفع شارات النصر المزعوم عليهم وعلى حقوقهم ووجودهم ومصيرهم، وموقف نظام الأردن الرسمي الذي تنطح للحديث بإسم العرب والفلسطينيين بتفويض من جامعة المشيخات، يعيد الذاكرة إلى قرن مضى حين كان التآمر الغربي ينفذ بإسم العرب ويعطي من حسابهم وحقوقهم، لكن مع الفارق أن التآمر في ذلك الحين كان استعمارياً بجميع حوامله، فيما اليوم يأتي بغطاء من صفوف الأعراب الذين زرعوا وسط العروبة والعرب…
الذي يعنينا في هذه الدراسة، ما فعله (ملوك) الأردن الذين عاصروا بداية المسألة الفلسطينيّة، ومَن خلََََفََهم على ذلك، وهذا، بحكم مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة، فهي محور كلّ ما يجري فوق أرض العرب، وستظلّ، ما بقيت غدّة إسرائيل السّرطانيّة، ولها أعوان يجلسون على عروشهم، يقولون للصحافة شيئاً، ويوقعون على مقرّرات في مؤتمرات القمّة العربيّة… ويفعلون شيئاً آخر… نقول بحكم مركزيّة قضيّتنا الأولى سنتوقف قليلاً عند ما فعله (ملوك) الأردن القريبون جغرافيّاً من أرض فلسطين، البعيدون مبدئيّاً، وعلى خطاهم مشى الأبناء، لأنّ عروشهم أقيمت أصلاً لخدمة المشروع الصهيوني، ساندين أنفسهم بدعاوى دينيّة، مذهبيّة، أوجدت أصلاً لمزيد من التفتيت، والبعثرة…
لعب الأردن دوراً أساسياً في القضية الفلسطينية، بسبب وحدة الجغرافية والتاريخ. فمنذ عشرينيات القرن الماضي، وتقسيم بلاد الشام والعراق بين أبناء الشريف حسين، الذي تطلع إبنه الأكبر عبد الله إلى السيطرة على الأراضي الفلسطينية، ليعوض خسارته في عرش سورية التي تركها أخوه الأصغر فيصل مرغماً للفرنسيين سنة (1920)، وعوضه الإنجليز عنها بالعراق. وأيضاً خسر السعودية التي سيطر عليها آل سعود. حيث لم يبقَ أمامه إلا فلسطين التي أخذ يطرح نفسه عليها لتوسيع إمارته.
لهذا لم يتورع عبد الله عن إقامة اتصالات بينه وبين الوكالة اليهودية التي كانت تعمل في ظل الانتداب البريطاني في فلسطين لأجل تحديد الحدود النهائية بين الدول العربية وفلسطين من قبل لجنة تعين من قبل الطرفين. تلك الاتصالات دشنها أخوه فيصل بتوقيع اتفاقية صداقة مع وايزمن عام (1919). واستمرت تلك العلاقات المميزة لاحقاً مع دولة (إسرائيل) التي قامت على أرض فلسطين المحتلة.
وحين نشبت حرب عام (1948) بين دولة الكيان الصهيوني والعرب، كان هناك اتفاق مسبق وكامل بين الهاشميين والحركة الصهيونية، جوهره أنه مع إعلان تقسيم فلسطين، تعلن دولة يهودية على الجزء المخصص حسب القرار، وأما بالنسبة للجزء المخصص للعرب يضم إلى شرق الأردن بحيث لا يكون هناك من داع لإقامة دولة فلسطينية بين (إسرائيل) وبين نهر الأردن. وبهذا يحقق الملك عبد الله حلمه في مملكة لها وجود على ضفتي النهر شرقاً وغرباً. فما كاد يصدر قرار التقسيم في (تشرين الثاني 1947)، حتى قام الملك عبد الله بضم الضفة الغربية لنهر الأردن، بكل مدنها وقراها والقدس الشرقية إلى الأردن.
اكتفى الملك عبد الله في تدعيم علاقاته مع (إسرائيل) والفلسطينيين الذين تم ضمهم للأردن، محاولاً المحافظة على ما جناه من مكاسب في فلسطين. ولم يمر عام (1949) حتى تبدل إسم البلاد من شرق الأردن إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
وخلال الخمسينيات والستينيات، أصبح عدد الفلسطينيين في الأردن أكثر من عدد الأردنيين بنسبة إثنين إلى واحد، ووصل عددهم آنذاك إلى حوالي مليون وأربعمائة ألف فلسطيني. ولهذا، لم يخل المجتمع الأردني من الإحساس بالغبن تجاه الفلسطينيين الذين أصبحوا تجاراً وملاك أراض وحرفيين مهرة وأصحاب محلات وغيرها، حتى أن الكثير من الفلسطينيين شكل خطراً ليس فقط على الأردنيين الأقل مهارة من الفلسطينيين، وإنما شكلوا خطراً على نظام الملك نفسه. وظن الملك أن باستطاعته قتل الوطنية الفلسطينية في قلوب الفلسطينيين، فعمل على طمس معالم التاريخ والثقافة الفلسطينية، وكذلك علم فلسطين من المدارس والمنتديات العامة. ولم يمض وقت طويل حتى اغتيل عبد الله في (20 تموز 1951) وهو متوجه للصلاة في القدس، واختير إبنه حسين ملكاً عام (1952)، الذي كان هاجسه الأول الحفاظ على حكمه، بغض النظر عن حقوق الشعب الفلسطيني.
خلال الخمسينيات والستينيات، كان المد القومي في ذروته بزعامة جمال عبد الناصر، وتجلى في وحدة سوريا ومصر عام (1958). ولم يكن الأردن خارج هذا الإطار، فالمزاج الفلسطيني في الأردن كان الأكثر دعوة للقومية العربية والوحدة. وحاول الفلسطينيون السيطرة على الحكم في الأردن، بمساعدة جمال عبد الناصر، فيما بين (1958 ـ 1960) تعرض الملك لعدة محاولات فاشلة لاغتياله، مما زاد من نقمته على عبد الناصر. وحتى يؤمن استمرار حكمه، استمر في تقديم نفسه اليد التي تحمي المصالح الأمريكية في المنطقة في وجه نفوذ الاتحاد السوفييتي، ولهذا لم يتوقف ضخ الأموال والمساعدات الأمريكية للاقتصاد الأردني.
مع بداية الستينيات، بدأ الفلسطينيون بالاندماج أكثر وأكثر في المجتمع الأردني، وبدؤوا يتركون المخيمات تدريجياً، وشكلوا جزءاً أساسياً من كل الأنشطة الاقتصادية الأساسية في الأردن. فقد ظن الملك حسين أنه بهذه الطريقة سيتمكن من تحويل الفلسطينيين إلى أردنيين مخلصين له. لكن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في العام (1964)، ككيان يجمع ويمثل كل الفلسطينيين المشتتين، حطم آمال الملك حسين. ولهذا لم يوافق على قرار جمال عبد الناصر بإنشاء المنظمة، إلا بشرط أن لا تعمل منظمة التحرير على أرض الأردن.
لم يقدر الجيش البدوي الملك حسين الذي وضعه على حدود الأردن قطع الطريق على نشاط الفدائيين الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفشل في منعهم من الهجوم على مواقع الجيش الإسرائيلي، وتتالت هجمات الفدائيين من الضفة الغربية تخترق حدود العدو وتوجه ضرباتها، ثم تنسحب للأردن. ونتيجة لمجزرة السموع التي نفذتها القوات الإسرائيلية ضد فدائيين فلسطينيين في قرية السموع في الضفة الغربية عام (1969)، دون أن يدافع عنهم الملك حسين، انفجر غضب الفلسطينيين كله، وخرجوا في شوارع الأردن وصرخوا بعبارات الاتهام ضد الملك حسين ومزقوا صوره، وقد دعم عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية وسوريا تحركاتهم.
لم تكن مواقف الحسين من منطلق إيمانه بوجوب تحرير الأرض الفلسطينية أو نيل الشعب الفلسطيني لحقوقه، بقدر ما كان خوفاً من مواجهة أي حرب أهلية مع الفلسطينيين داخل حدوده.
فقبل عدوان (1967) بأيام كان محاصراً بالثوريين العرب من كل جهة، وحليفته أمريكا كانت منحازة كلياً لـ(إسرائيل) كعادتها وتعمل للتخلص من عبد الناصر بأي ثمن. لهذا لم يتوانَ عن فتح قناة مخابرات سرية مع (إسرائيل) يتم خلالها تبادل المعلومات مع تل أبيب سواءً فيما يخص نفوذ عبد الناصر الذي كان يرى فيه شبحاً يهدد نظامه الملكي أو حول الفدائيين الفلسطينيين، ولذلك لم يكن غريباً، أن يصمت عن المعلومات التي كانت قد وصلته حول نية (إسرائيل) شن هجوم كاسح على القوات العربية في مصر وسوريا.
ولذلك لم يتردد حسين وأرسل للأمريكان يطالبهم بسلامة مملكته في حال اندلعت الحرب. وفي الوقت نفسه، أحيا بنود اتفاق الدفاع المشترك مع القاهرة، كي لا تغضب منه. ومع هذا، لم يقاتل الجيش الأردني إلا ثلاثة أيام، فقد أرسل رئيس الوزراء الإسرائيلي (ليفي أشكول) برسالة إلى الحسين يطمئنه بأن (إسرائيل) لن تبادر بالحرب ضد الأردن ما لم يهاجم الأردن (إسرائيل) إلا أن (إسرائيل) خدعته وهاجمت قواته، ولم تبقِ للملك حسين إلا قواته البرية.
وفي اليوم الثالث للحرب، فقد كلاً من الضفة الغربية والقدس، وانتقلت تلك الأراضي من أيدي الأردن إلى (إسرائيل). ومثل ذلك خسارة اقتصادية واجتماعية وثقافية للأردن، خسر الأردن سكان الضفة الغربية الأكثر تعليماً ومهارة، الذين يمثلون العمود الفقري للخدمات المدنية والثقافية والفكرية في الأردن.
وكرد فعل على هزيمة العرب، وفقدان الأمل بقدرة العرب على تحرير فلسطين، أفسحت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات الطريق أمام منظمات الفدائيين لشن غارات فدائية داخل فلسطين المحتلة، وأدى وجود الفدائيين في الأردن ونشاطهم المتصاعد ضد العدو الصهيوني، إلى إبعاد تدريجي للموظفين الأردنيين عن مخيمات اللجوء فيها، وإحكام سيطرتهم عليها. ومع محاولة الملك حسين حصار نشاطهم على أرضه وإخضاعهم لحكمه، من خلال وضع حواجز للطرق وعربات تفتيش، وأمر الجنود الأردنيين بجمع الشبان الفلسطينيين من الشوارع وترحيلهم إلى معسكرات صحراوية بعيدة، ليمنع انضمامهم لصفوف الفدائيين. وبلغ عدد الفدائيين في الأردن سنة (1968) حوالي (20) ألف فدائي فلسطيني، وكان هذا كافياً لإشعال المواجهة بين الجيش الأردني والفدائيين، ما عرف في بداية السبعينيات بأحداث (أيلول الأسود).
حين وجه الملك نيرانه إلى معسكرات الفدائيين وامتد القتال حتى عمان وكل الأردن. وفقد الملك حسين زمام الأمور، ولم يكن بوسعه حتى السيطرة على جيشه الذي شعر بالخزي أمام قوة الفدائيين وقدرتهم على التحكم في البلاد، حتى أن الصليب الأحمر كان يتفاوض مباشرة مع الفدائيين وليس مع حكومة الأردن حين تم اختطاف ثلاث طائرات وتحويل مسارها إلى الصحراء الأردنية، مما جعل الملك يعلن الأحكام العرفية، وكانت مجازر (أيلول الأسود) ضد الفلسطينيين.
قبيل طلوع فجر (17 أيلول) تحرك الجيش الأردني وتوزع في عمان وتلالها السبع، ومع صمود الفدائيين بوجه القصف المستمر، أعلن الملك إما على الفدائيين الاستسلام أو سيبيدهم بالكامل، وبدأ جيش الملك بتفتيش البيوت، بحثاً عن الفدائيين. ومع استمرار الصمود الفلسطيني أصبحت المخيمات أهدافاً رئيسية لهجوم الأردنيين. ورغم ارتفاع عدد القتلى، ونسف المخيمات، صمد الفدائيون ولم ينكسروا.
قدمت كل من العراق وسوريا قوات لمساعدة الفدائيين، في الوقت الذي وضعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية قواتها في حالة طوارئ في شرقي المتوسط، وحشدت قدراً كافياً من القوة في المنطقة لدعم الملك حسين، تبعتها (إسرائيل) بالقيام بمناورات عسكرية كبيرة على حدودها مع الأردن، فردت سورية بأن عبرت دباباتها الحدود الشمالية من الأردن. ومع تحذير الأمريكان للسوفييت لإبعاد السوريين، تراجعت الدبابات السوريّة. أما عبد الناصر الذي هده عدوان حزيران، أعلن عدم قدرته على إرسال قواته للأردن، ولم يكن أمامه إلا لعب دور سياسي كوسيط بين ياسر عرفات وحسين.
وفي (27 أيلول)، تم إنهاء الحرب وتركت أحداث أيلول (35) ألف شهيد وجريح. تركت هذه الأحداث الملك حسين ضعيفاً، ولم يبق له إلا تابعوه من البدو، حتى الإسرائيليين، اعتبروه ضعيفاً وغير قادر على ضبط مملكته وحماية حدودها، كما كانت ترجو منه. وفشلت كل محاولاته خلال لقاءاته المتكررة مع أبا إيبان، وزير خارجية (إسرائيل)، في فنادق لندن، للتوصل لتسوية بينهما واستعادة السيطرة الأردنية على الضفة الغربية.
أما في حرب تشرين (1973)، لم يفعل الملك شيئاً، باستثناء وضع جيشه في حالة استعداد وانتظار الأحداث، وبقي هاجس إعادة السيطرة الأردنية على الضفة الغربية، الشغل الشاغل له، وكان عليه في البداية إقناع الفلسطينيين أولاً على وجوب تمثيلهم، بحجة أن الأردن هي الأرض الوحيدة لممارسة شكل من أشكال الحكم الذاتي على الضفة الغربية. وكانت الصدمة في قمة الرباط عام (1974) حين أعلنت أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وقبل الملك القرار رغماً عنه.
رفض الملك حسين، اتفاقية (كامب ديفيد)، وانضم للعرب وقطع علاقاته الدبلوماسية مع مصر. كون الاتفاقية لم تحل له مشكلة الضفة الغربية والقدس. واستمرت محاولاته من أجل أن يحتل موقع مركزي في أي حل للقضية الفلسطينية. لهذا استغل الحرب التي شنتها (إسرائيل) على المنظمة عام (1982) أثناء وجودهم في لبنان وخروجهم منها. ووافق على خطة ريغان التي في جوهرها تحيي مشروع الملك حسين لعام (1970) الذي دعا فيه الأردن لتحمل مسؤولية الضفة الغربية مقابل اعتراف العرب بـ(إسرائيل)، لكن منظمة التحرير الفلسطينية رفضت المبادرة والانضمام إليها.
لم ييأس الحسين، ففي العام (1984)، عاود التقرب من ياسر عرفات، واستضاف اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني السابع عشر في عمان، كما شجع بناء المشروعات الاجتماعية الأردنية في الضفة الغربية، وتقرب من أمريكا، بإعادة علاقاته الدبلوماسية مع مصر. ولم تمضِ سنة، حتى وقع مع ياسر عرفات اتفاقاً ينص على أن كلاً من الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ستعملان معاً للتوصل إلى مبادرة للسلام تستند على مبدأ مبادلة الأرض بالسلام مع (إسرائيل).
لقد وفر هذا الاتفاق للملك حسين، شرعية للتباحث مع (إسرائيل). وإن منيت مباحثاته مع شيمون بيريز بالفشل، فيما يخص حقوق الشعب الفلسطيني. لكنها أدت للتقارب بين الطرفين الأردني والإسرائيلي، وهكذا أصبحت الأردن و(إسرائيل) تعملان معاً علناً.
فالعلاقة بين النظام السياسي والمجتمع الفلسطيني كانت دائماً علاقة ذات طبيعة ملتبسة إلى حد بعيد، وليس صحيحاً أنها نتيجة لأحداث أيلول 1970، بل هي سابقة عليها، إلا أن أيلول 1970 نقلت هذه العلاقة لمستوى أعلى من السلبية.
فالعودة لفترات 1949 ـ 1970 تشير إلى أن الطرف الفلسطيني، لا سيما قطاع هام من نخبه السياسية بشكل عام، كان ينظر بعين الريبة لسلوك النظام (ولسنا هنا معنيين بمدى صحة هذه النظرة بل بوجودها في حد ذاته)، فالمظاهرات المعادية في الضفة الغربية خلال الستينات والخمسينات، وانحياز النخب الفلسطينية للنزعة اليسارية والناصرية، والتوتر بين منظمة التحرير في فترة أحمد الشقيري والنظام في الأردن، وآثار مقتل الملك من قبل فلسطيني…، لا تدل على علاقة إيجابية.
وبعد أحداث أيلول تعمقت هذه الفجوة، ثم جاء فك الارتباط مع الضفة الغربية ليعيد النظر في قانونية العلاقة بين الطرفين، كما ساهم الطرف الإسرائيلي في تعميق الفجوة من خلال الطرح الصريح والضمني لمشروع الوطن البديل، والذي أيقظ إحساساً بالتهديد من قبل الطرف الأردني. ونتيجة لذلك كله، وجدت النخب الأردنية التكنوقراطية تحديداً، فرصة لاستثمار هذه الفجوة بين الطرف الفلسطيني والنظام، فراحت هذه النخب تعيد صياغة القوانين الانتخابية، وتقسيم الدوائر وبقية المنظومة القانونية لتعزز هذه الفجوة.
لقد تمحورت الثقافة السياسية الفلسطينية حول فكرة العودة وتحرير فلسطين، بينما تمحورت الثقافة السياسية الأردنية حول فكرة ”الإرث الهاشمي”، ورغم الوحدة التي جرت بين الضفتين إلا أن كلا من الثقافتين ظل يتغذى بشكل منفصل عن الآخر، بل كثيراً ما تغذى بشكل معاكس، وإن تلاقت الجذور في باطن هذه الثقافة السياسية أحياناً، إلا أنها لم تتلاق في سيقانها ولا ثمارها، بل ولا مزارعيها القائمين على رعايتها.
وقد تآكلت الثقافتين معاً، فقد تآكلت ثقافة التحرير والعودة لدى الفلسطينيين لأسباب عديدة، أبرزها الخلل في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، كما تآكلت ثقافة الإرث الهاشمي، نظراً لتآكل الدولة العربية الموحدة بخسارة المشروع الهاشمي، أولاً لفلسطين بعد وعد بلفور (1917)، ثم خسارة سورية ولبنان (1920) ثم خسارة الحجاز (1925)، ثم خسارة العراق (1958)، فخسارة الضفة الغربية (1967).
وانحسر المشروع في الضفة الشرقية لنهر الأردن بعد الإعلان عن فك الارتباط عام (1988). ويبدو أن تآكل الثقافتين دفع إلى البحث عن تشكيل ثقافة فرعية تقوم على ”الأردن أولاً” من ناحية، وعلى ”استقلالية القرار الفلسطيني” من ناحية ثانية، ولكل من المشروعين مضمون سياسي انفصالي، يعكس حالة الشعور بالهزيمة أكثر من الشعور ببديل عقلاني، وبدأ كل من الطرفين يسعى على عجل لتحويل مشروعه الجديد إلى واقع فعلي، لكنهما اكتشفا أن الأمر أعقد كثيراً مما بدا للوهلة الأولى.
ومع اندلاع انتفاضة الحجارة عام (1987) في كل من الضفة الغربية وغزة، وتوقد مشاعر الوطنية الفلسطينية في كل مكان. جعلت الملك حسين يفقد آخر أمل بإعادة السيطرة على الضفة، كما أنها أنهت أي حل أردني للقضية الفلسطينية.
في هذه الفترة، واجه النظام الأردني مشكلات داخلية، تجلت في مظاهرات احتجاجاً على تدني مستويات المعيشة، وفوز الإخوان المسلمين بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان الأردني. وأصبح حسين في مواجهة تصاعد الأصولية الإسلامية. وفي (آب 1990)، كان الملك حسين يقف بجانب صدام حسين أثناء غزوه للكويت، مقابل أن العراق الجريح كان يمد الاقتصاد الأردني بالعملات الأجنبية، كما تجنب حسين بموقفه هذا غضب الجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية.
حاول الملك حسين من خلال مؤتمر مدريد للسلام عام (1991) إعادة الدور المركزي للأردن بخصوص الفلسطينيين في الضفة، لكن إصرار عرفات أجبره على ضم فلسطينيين إلى الوفد الأردني أثناء جولات المفاوضات في المؤتمر، وانقسم الوفد المشترك إلى وفدين مستقلين، سارت الأمور بسهولة في المسار الأردني، ورفضت (إسرائيل) موضع الخوض في قضية اللاجئين. في المقابل، تتالت الأزمات على المسار الفلسطيني ورفض الوفد الإسرائيلي الاعتراف باستقلالية الوفد الفلسطيني، وفشل مؤتمر مدريد ولم يقدم أي نتائج ملموسة على أي مسار لا فلسطيني ولا عربي.
في هذا الوقت، كان الفلسطينيون يهيؤون لاتفاقية أوسلو، التي لم يعلق الملك حسين أهمية كبيرة على مباحثاتها، واثقاً بأنها لن توصل لأي اتفاق. تفاجأ الملك حسين من إعلان الاتفاق، وشعر بالغبن، كان يعتقد أن له الحق في أخذ رأيه قبل التوقيع على أية أوراق. لم يترك له الضغط الأمريكي فرصة كي يعبر عن مشاعره وامتعاضه لتجاهله، فأعلن تأييده للاتفاقية، واتصل بعرفات طالباً منه أن لا يصدق ما نسب إليه عن: (أنه معارض للاتفاق ويتخذ منه موقفاً سلبياً).
ولم يمضِ عام على توقيع اتفاقية أوسلو حتى سارع الأردن كثاني دولة عربية بعد مصر لتوقيع معاهدة سلام مع (إسرائيل) في (26 تشرني الأول سنة 1994)، أطلق عليها اتفاقية (وادي عربة).
ومع توقيع الاتفاقية، أصبح الأردن الحارس الرسمي والأمين لـ(إسرائيل)، ففي أحد بنود الاتفاقية، يمتنع الأردن عن: (الدخول في أي ائتلاف أو تنظيم أو حلف ذي صفة عسكرية أو أمنية مع طرف ثالث أو مساعدته بأي طريقة من الطرق أو الترويج له أو التعاون معه إذا كانت أهدافه أو نشاطاته تتضمن شن العدوان أو أية أعمال أخرى من العداء العسكري ضد الطرف الآخر بما يتناقض مع مواد هذه المعاهدة).

خاص بانوراما الشرق الاوسط - نسمح باعادة النشر شرط ذكر المصدر تحت طائلة الملاحقة القانونية



المزيد ..