تحقيق يكشف ابعاد "المؤامرة" على ليبيا ودور الناتو وقطر والإخوان
رام الله - دنيا الوطن-وكالات
كتب فراس كيلاني
مرت ثلاثة أعوام على مقتل العقيد معمر القذافي، يومها عمت الاحتفالات غالبية مدن البلاد، ورفعت لافتات الشكر لكل من ساهم من دول العالم في إسقاط نظام الجماهيرية، وعلى الأخص قطر وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية. كانت الآمال بالانتقال إلى نظام ديموقراطي عارمة، ولم يتوقف الليبيون عند الكثير من العقبات والإشكاليات التي برزت مبكراً في عمر «الثورة»، وكانت تؤشر إلى أخطار مقبلة ستعترض انتقال البلاد من الديكتاتورية التي استمرت لأربعة عقود، إلى الدولة المنشودة.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، دخلت ليبيا عملياً مرحلة الحرب الأهلية في كل من طرابلس وبنغازي، عنوانها الأبرز صراع على السلطة، يشكل في جزء منه انعكاساً لحرب بالوكالة بين أجندات عربية متصارعة، وذلك على خلفية دور التيارات الإسلامية في رسم مستقبل الدول التي شهدت انتفاضات ساهمت في إسقاط الأنظمة في بلدانها. وبالتزامن مع هذا الصراع تزداد الأخطار من نشاط التنظيمات المتشددة التي أتاح لها غياب السلطة المركزية فرصة كبيرة للتوسع وفرض سيطرتها وأجنداتها على مدن ليبية عدة، إلى درجة دفعت وزير الخارجية الليبي محمد عبدالعزيز إلى التحذير قبل أيام من أن «البلاد في طريقها لتصبح إمارة إسلامية».
لا يمكن فهم الوضع الليبي وتفسيره اليوم بناء على معطيات المشهد الحالي، فجذور ما يجري تمتد في جزء منها إلى أحداث كثيرة تم السكوت عنها منذ بدء انتفاضة السابع عشر من شباط ( فبراير)، وساهمت لاحقاً في نكء جراح قبلية وجهوية كان يعتقد أنها التأمت منذ وقت طويل، أضيف إليها بعدٌ أيديولوجي لم يعهده المجتمع الليبي يوماً.
حكاية لم تروَ
حالة التصديق البدهية لصحة الانتهاكات التي ارتكبتها قوات القذافي في الأيام الأولى للانتفاضة كانت مبررة بالنظر إلى أربعة عقود من القتل والتعذيب والاختفاء القسري وغيرها من انتهاكات طاولت حتى غرف نوم القذافي السرية، لكن التسليم بذلك حجب الكثير من الحقائق في شأن ما جرى خلال عام ٢٠١١، ليس بسبب صعوبة توثيقها، وإنما لكونها تلقي الضوء على تفاصيل كان يمكنها أن تغير مسار الأحداث فيما لو كشفت مبكراً.
مع إعلان «انتصار الثورة الليبية» في 23 تشرين الأول (أكتوبر) كانت تقديرات مصادر شبه رسمية قريبة من المجلس الوطني الانتقالي تشير إلى أن أعداد القتلى تناهز الخمسين ألفاً، وبعد إحصاءات رسمية قامت بها وزارة رعاية أسر الشهداء والمفقودين واستمرت لعامين اتضح أن عدد القتلى يبلغ 5517 فقط.
أُثبتت أحداث كثيرة تم التحقق منها لاحقاً أن وسائل الإعلام وقعت فريسة تضليل كبير من جانب وسائل الاتصال الاجتماعي، وبعضها ساهم في إنتاج وتضخيم الحدث، بطريقة اتضح أنها كانت تستهدف استصدار قرار دولي من مجلس الأمن وهو ما حصل سريعاً، إذ بعد عشرة أيام على اندلاع أحداث بنغازي، دان مجلس الأمن في القرار ١٩٧٠ «الانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان»، واعتبر أنها «ترقى إلى مرتبة جرائم ضد الإنسانية»، وقرر إحالتها تحت الفصل السابع إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
كان القرار مبنياً على تقارير إعلامية تفيد حينها بسقوط حوالى ألفي قتيل في بنغازي وطرابلس، وتبين لاحقاً عدم صحة هذه الأرقام، كما تبين عدم صحة الكثير من الصور والمعلومات التي كانت تبث سريعاً من جانب الناشطين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لتعرض على الفور من جانب الفضائيات الإخبارية العربية.
ويؤكد ديبلوماسي ليبي كان شاهداً على الأحداث منذ أيامها الأولى في بنغازي، أن «حجم التضخيم فاق كل التوقعات، ليس فقط في ما يتعلق بأعداد القتلى، وإنما أيضاً في مسائل أخرى كتلك التي ركزت على استقدام القذافي مقاتلين مرتزقة أفارقة».
وتؤكد «مجموعة الأزمات الدولية» هذه المسألة في تقرير أعد عقب انتهاء الثورة بقليل، ويشير إلى أن «قضية المرتزقة تم تضخيمها وخلطها بالقضية المختلفة والأوسع لشبكات الهجرة غير المشروعة... كان كثرٌ منهم لا يملكون أذونات إقامة أو تأشيرات دخول ولا أية ممتلكات ولا حتى في بعض الحالات جوازات سفر وكان يتم اعتقالهم على هذا الأساس فقط».
أدرك معمر القذافي مبكراً أهمية هذه المسألة، خصوصاً بعد خطابه في ٢٢ شباط، وخطاب ابنه سيف الإسلام قبله بيومين، وما تسببا به من انشقاقات كبيرة، وتأجيج مشاعر الغضب عند الليبيين عموماً، وعمل بمشورة السياسي الفلسطيني محمد دحلان الذي كان يتمتع بعلاقة جيدة جداً مع القذافي الأب.
يقول مصدر فلسطيني إن دحلان «نصح القذافي بضرورة دعوة الإعلاميين للمجيء إلى طرابلس، وإعطائهم الفرصة للوقوف على حقيقة ما يجري بلا قيود»، إضافة إلى بعض النصائح الأخرى التي قد تساهم في تخفيف حدة الاحتقان في الشارع الليبي كتوزيع مساعدات على شكل هبات نقدية وهو ما تم بالفعل.
وجه القذافي دعوة إلى حوالى مئة وخمسين صحافياً من مؤسسات غربية وبعض المؤسسات العربية لطرابلس في الخامس والعشرين من شباط ٢٠١١، ونزلوا في فندق «ريكسوس» الفاخر الذي كان مقر إقامة بعض مساعدي دحلان في تلك الفترة أيضاً، وبالفعل كانت أولى الانطباعات التي خرج بها الصحافيون هي عدم صحة الأنباء التي تحدثت عن قصف طيران القذافي أي مواقع في العاصمة أو بالقرب منها، وذلك وفق ما تبين من زيارات رتبها المتحدث باسم النظام موسى إبراهيم للصحافيين إلى هذه المواقع. لكن المسألة الأهم التي كان نظام القذافي يحاول تثبيتها في تلك الفترة أن انسحابه من المدن، تحديداً من بنغازي ومصراته والزاوية، كان بقرار منه «للحؤول دون إراقة دماء الليبيين» على ما كان يؤكد موسى إبراهيم.
وبصرف النظر عن السبب الذي أورده إبراهيم، فإن الحقائق تؤكد أن القذافي بالفعل أعطى الأوامر لكتائبه للانسحاب خارج المدن، تخوفاً على ما يبدو من احتمال تأجيج حدة الاحتجاجات ضده إن هو ضرب بيد من حديد لاستعادة السيطرة عليها، كما كان حصل في كل من تونس ومصر. وفي خطوة نادرة سمح القذافي للإعلاميين الدخول إلى مدينة الزاوية التي كانت تحت سيطرة المعارضة، وتبعد حوالى خمسين كيلومتراً غرب طرابلس. وبعد يومين بدأت قوات القذافي عملية لم تستغرق سوى ساعات قليلة لاستعادة المدينة، كما نجح في استعادة راس لانوف، واستطاع التقدم في شكل كبير على أكثر من محور لاستعادة مدينة مصراتة.
كانت ليبيا تحت المجهر الدولي آنذاك، ولعبت الدوحة وباريس الدور الأبرز في حشد الجهد الديبلوماسي ضد القذافي الذي غيّر خطابه في ذلك الحين وبدا أنه بدأ يستعيد المبادرة.
استخدمت ذريعة حشد القذافي قواته لاستعادة مدينة بنغازي لاستصدار قرار ثان من مجلس الأمن الدولي، صدر بعد شهر بالتمام والكمال على بدء الانتفاضة (في السابع عشر من آذار/ مارس) تحت الرقم ١٩٧٣، وسمح «باتخاذ جميع التدابير اللازمة لحماية المدنيين والمناطق الآهلة بالسكان المدنيين المعرضين لخطر الهجمات»، وتم بموجب هذا القرار فرض حظر على جميع الرحلات الجوية في المجال الجوي للجماهيرية.
وظلت ملابسات صدور هذا القرار ملتبسة، خصوصاً لجهة تمريره من جانب روسيا، إذ اتضح لاحقاً، وفق ما كشف رئيس المكتب التنفيذي في المجلس الوطني الانتقالي الليبي محمد جبريل، أن مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة عبدالرحمن شلقم «أوهم» الأمين العام للأمم المتحدة بأن القذافي هو من يريد تمرير هذا القرار، في الوقت الذي كان يعمل سراً على صياغته بالتنسيق مع مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن سوزان رايس ونواف سلام مندوب لبنان الذي كان عضواً في مجلس الأمن آنذاك. وأعلن شلقم في كلمة مؤثرة انشقاقه عن النظام خلال كلمته في الجلسة المخصصة لتمرير القرار، ما اضطر روسيا والصين للاكتفاء بالامتناع عن التصويت، وهو ما ندمت موسكو عليه وفق ما أكده أكثر من مسؤول بينهم الرئيس فلاديمير بوتين، نظراً إلى استخدام القرار مبرراً لضرب كل مراكز قوة القذافي لا لإقامة فرض حظر للطيران فقط.
يقول أحد قادة كتائب القذافي الذين فروا إلى تونس بعد انتهاء المعارك، إنهم أدركوا خسارتهم الحرب بعد إطلاق الـ «ناتو» الصاروخ الأول في اتجاه ليبيا في التاسع عشر من آذار ٢٠١١، لكن الحقائق تشير إلى أنهم ظلوا يقاتلون بعقيدة وولاء كبيرين للقذافي، على رغم أنه كان بإمكانهم إلقاء سلاحهم والانضمام إلى المعارضة بعد فقدان القذافي منظومة الطيران الحربي، خصوصاً في المناطق الشرقية النائية عند جبهة أجدابيا التي لم تستطع قوات المعارضة اقتحامها، والتي ظلت تقاوم لأشهر وبشراسة منقطعة النظير حتى سقوط طرابلس في آب (أغسطس).
استدعى فشل قوات المجلس الوطني الانتقالي الليبي في إلحاق الهزيمة بقوات القذافي، على رغم قصف الـ «ناتو» المركز لها، مبادرات لإيجاد مخارج لهذا الاستعصاء، كادت تحول دون السيناريو الكارثي الذي ستجد البلاد نفسها عالقة فيه لاحقاً، تحدث عنها محمود جبريل باستفاضة في حواره مع غسان شربل في صحيفة «الحياة»، ربما كان أهمها ما تقدم بها مبعوث القذافي صالح بشير لفرنسا في بداية تموز (يوليو) ٢٠١١، وتنص على تخلي القذافي عن السلطة شريطة عدم مقاضاته، على أن يظل في ليبيا بحماية فرنسية، وأن تجرى الانتخابات ويترشح لها أحد القيادات من المجلس الانتقالي، وفي الدورة الثانية يسمح لسيف الإسلام القذافي بالترشّح. وكذلك مبادرة مبعوث الأمم المتحدة آنذاك عبد الإله الخطيب لتشكيل مجلس رئاسي مؤلف من شخصين من المجلس الوطني الانتقالي وشخصين من النظام من التكنوقراط، ويتفق الأربعة على تعيين شخص خامس رئيساً موقتا للبلاد على أن يتنحى القذافي من دون أن يحاكم.
في خضم كل هذه التطورات وما تلاها، كان ثمة نشاط من نوع آخر يدور خلف المشهد العام الذي سيطرت عليه أخبار المعارك والقتال، وهو محاولة تيارات الإسلام السياسي على اختلاف مشاربها، تعزيز قوتها تمهيداً للمرحلة المقبلة التي ستلي انهيار نظام القذافي.
الحضور الجهادي في الانتفاضة الليبية كان مستتراً في الأيام الأولى في مدن الشرق، خصوصاً بنغازي ودرنة، وعلى رغم مشاركة الكثير من الجهاديين الذين كان قد تم الإفراج عنهم من سجون القذافي في انتفاضة المدينتين، إلا أنه سرعان ما تبدلت أولوياتهم، بخاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي فرض حظر للطيران، وبالتالي استبعاد خطر عودة كتائب القذافي لاستعادة السيطرة على المناطق التي فقد السيطرة عليها، فعملوا على تأسيس كتائب تتبنى الفكر السلفي الجهادي، ككتيبة «راف الله السحاتي» و «السابع عشر من فبراير».
ويؤكد أحد مساعدي رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصطفى عبدالجليل في تلك الفترة أن «الكثير من الأسلحة والمخصصات التي كانت تذهب إلى هذين التنظيمين لم تكن تستخدم في معارك ضد قوات القذافي»، ويعتقد أن ذلك سبب أساسي في عدم قدرة قوات المعارضة على تحقيق أية إنجازات عسكرية غرباً عند جبهة أجدابيا طيلة أشهر.
ويوضح الرجل الذي تبوأ منصباً كبيراً في السلك الديبلوماسي الليبي ورفض الكشف عن اسمه، أن «كل العتاد الحربي الذي استطاعت هذه التنظيمات جمعه كان يتم تخزينه في معسكرات بالقرب من بنغازي وفي مدينة درنة التي لم يتنبه الإعلام لما كان يجري فيها في ذلك الحين»، وأنه على رغم استشعار قيادة المجلس الوطني الانتقالي الليبي خطر هذه المسألة مبكراً، إلا أنها «آثرت عدم الخوض فيها لما قد يثيره ذلك من مخاوف لدى الغرب قد تدفعه إلى إعادة النظر في إسقاط نظام العقيد».
ولم تسعَ هذه التنظيمات طيلة فترة الحرب التي انتهت بمقتل القذافي إلى فرض أي حضور علني في المناطق التي كانت تنشط فيها، وكان أقصى ما عملت عليه هو محاولة التسلل إلى الشارع الليبي عبر تقديم خدمات إنسانية، من دون محاولة فرض أية أفكار تلفت الأنظار الى مشروعها. وبالفعل، لم يبدِ الشارع الليبي في تلك الفترة أية مخاوف من نشاط هذه الكتائب، وظل يتطلع في غالبيته لمتابعة سير المعارك على أمل النجاح بإسقاط نظام الجماهيرية.
يقول رجل الأعمال الليبي رائد النيهوم عن تلك الفترة إن «سكان بنغازي لم تكن لديهم أية مخاوف على هذا الصعيد، فالمجتمع الليبي معروف باعتدال إسلامه ويرفض الأفكار المتطرفة».
كان لسان حال رائد يعكس المزاج العام في المنطقة الشرقية عموماً في فترة الانتفاضة الليبية، خصوصاً في ما يتعلق باحتمال سيطرة تيارات الإسلام السياسي على مكاسب الثورة حال سقوط النظام، لكن هذه الحقيقة تغفل أن ليبيا كانت من أوائل الدول العربية التي شهدت نمو الظاهرة الجهادية مطلع ثمانينات القرن الماضي.
كان عوض الزواوي أسس حركة عام ١٩٨٢ اعتمدت الجهاد المسلح لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي، ونفذ محاولات انقلابية عدة باءت بالفشل، واضطر أعضاؤها بغالبيتهم لمغادرة البلاد، حيث عززوا مهاراتهم القتالية في أفغانستان من دون أن يعلنوا الانضمام إلى تنظيم «القاعدة». وعاد هؤلاء بمعظمهم إلى ليبيا مطلع التسعينات وأعلنوا عام ١٩٩٥ ولادة التنظيم رسمياً باسم «الجماعة الليبية المقاتلة»، حيث استأنفوا العمل المسلح ضد النظام الذي وجه لهم ضربات مؤلمة، فأوقفوا عملياتهم عام ١٩٩٨، وأعلنوا وقف إطلاق النار رسمياً عام ٢٠٠٠، وبدأوا عملية مصالحة مع النظام ضمن ما بات يعرف بمشروع سيف الإسلام القذافي «ليبيا الغد» انتهت بما بات يعرف بـ «المراجعات» التي تلاها الإفراج عن الكثير من أعضاء الجماعة.
في المقابل، كان تنظيم «الإخوان المسلمين» قد بدأ النشاط في ليبيا تحت حكم الملك إدريس السنوسي مطلع الخمسينات من القرن الماضي، لكن هذا النشاط توقف عقب الانقلاب على الملكية من جانب مجموعة من الضباط الليبيين بقيادة العقيد معمر القذافي، واعتقلت قيادتهم عام ١٩٧٣، وأعلنوا حل الجماعة عبر وسائل الإعلام، لكنهم عادوا إلى العمل سرياً هذه المرة حيث هرب الكثير منهم إلى الولايات المتحدة الأميركية وأصدروا من هناك مجلة «المسلم» عام ١٩٨٠، وبعد حوالى عقد عاد بعضهم إلى ليبيا وأعادوا بناء التنظيم سراً منطلقين من ضرورة العمل على التغيير من داخل البلاد، إلا أن الأجهزة الأمنية شنت حملة اعتقالات بحقهم عام ١٩٩٩ شملت العشرات من قياداتهم. لتبدأ بعد ذلك العلاقة بين الطرفين تنحو منحًى مختلفاً عام ٢٠٠٥، حيث أيد «الإخوان» مشروع «ليبيا الغد»، من دون أن يعني ذلك السماح لهم بالنشاط داخل البلاد، فقانون تجريم الحزبية ظل ساري المفعول حتى بدء الانتفاضة ضد حكم العقيد القذافي.
لم تعمد تيارات الإسلام السياسي للعودة إلى العمل علنياً على الأقل طيلة فترة الثورة الليبية، إلا أنه كان من الواضح أنها تسعى إلى توطيد مراكز قوتها، إن كان عبر تأسيس الكتائب ذات التوجه السلفي الجهادي، أو عبر النشاط العام لخلايا «الإخوان المسلمين» الذي استأنفته فور بدء الانتفاضة ضد حكم معمر القذافي، وأعلنت عن حضورها بقوة عقب مقتله عبر إحكام سيطرتها على الكثير من مراكز القوة السياسية والعسكرية في البلاد.
يقول محمود جبريل إن الأعداد لهذا الأمر تم قبل مقتل القذافي بوقت طويل، ويشير إلى الدور القطري المبكر والكبير في هذا المجال عبر دعم التيارات الإسلامية السياسية والعسكرية، وكان الحصان الرابح في هذه الحلبة بدايةً هو عبدالحكيم بلحاج، أمير الجماعة الليبية المقاتلة السابق، والذي كان أُفرج عنه في إطار المصالحة مع النظام.
ويورد جبريل في حديثه إلى صحيفة «الحياة» كيف سعت قطر بجهد بالغ إلى فرض بلحاج ليكون قائد «عملية تحرير طرابلس»، لدرجة أنها طلبت تأجيل موعد العملية من ١٧ آب لثلاثة أيام بحجة أن الـ «ناتو» غير قادر على قصف الأهداف التي تم طلب تحييدها، ليتبين لاحقاً أن من بين ٢٨ موقعاً كان الـ «ناتو» قد قصف بالفعل ٢٤ هدفاً، وأن سبب التأجيل هو «محاولة تمكين عبدالحكيم بلحاج من استجماع قوات كافية في منطقة الجبل ليدخل بها طرابلس حتى يعلن أنه هو من حرر المدينة».
وتؤكد «مجموعة الأزمات الدولية» هذه الرواية بالقول إن «خلفية تعيين بلحاج وتشكيل المجلس نفسه غامضة، وإن كثيرين بين المصراتيين والجيش الوطني والقيادة العسكرية الغربية كانوا ينظرون إلى أنشطة بلحاج على أنها ترقى إلى حالة الانقلاب».
أمضى معمر القذافي الأسابيع الأخيرة في حياته متحصناً في مدينته الأثيرة سرت، وظل يقاوم مع عشرات من مقاتليه وبعض أركان حكمه وابنه المعتصم حتى اللحظات الأخيرة التي قرروا فيها ضرورة المغادرة، وذلك بعد حصارهم في أحد الأحياء لأكثر من أسبوعين، كانت طائرات الـ «ناتو» تقصف المنطقة من حين لآخر من دون معرفتها أن القذافي كان يتحصن فيها، بينما انشغل كثر من مقاتلي المعارضة بنهب غالبية منازل المدينة وقصفها عشوائياً. وفي ٢٠ تشرين الأول قتل القذافي بطريقة بشعة من جانب معارضيه بعد رصد الـ «ناتو» موكبه وقصفه، ولم يفتح تحقيق رسمي في أسباب وفاته وابنه المعتصم الذي اعتقل حياً مع العشرات من الجنود الذي الذين تأكد إعدامهم أيضاً، على رغم ما أعلنه رئيس المكتب التنفيذي في حينه محمود جبريل عن ضرورة القيام بذلك. و
يهمس مقاتلو مصراتة بقصص الانتهاكات الجنسية التي تعرض لها الزعيم الليبي، وهو ما أثبته تقرير طبي أولي اختفى لاحقاً من مستشفى «مصراتة الوطني» الذي عاين الجثة وأرجع سبب الوفاة الرئيسي إلى نزيف داخلي في الأحشاء. يقول سكان مصراتة إن القذافي كان أعطى أوامر لمقاتلي بلدة تاورغاء المجاورة الذين تطوعوا للقتال إلى جانب «كتيبة خميس» باغتصاب نسائهم، وهو ما دفع مقاتلي المدينة للانتقام بتهجير سكان «تاورغاء» وقتل الكثير من أبنائها، ويفسر أيضاً الطريقة التي قتل فيها معمر القذافي ولاحقاً ابنه معتصم.
ثمة مقبرة أرقام بالقرب من شاطئ مصراتة على المتوسط اليوم يطلق عليها سكان المدينة تندراً اسم «فندق جنات»، وتضم حوالى سبعمئة قبر متسلسل رقمياً لمقاتلين ومدنيين من المؤيدين للقذافي قضوا في ظروف غامضة.
مذّاك الحين ارتبط اسم كتائب مصراتة، هذه المدينة التي لا يتعدى تعداد سكانها المئتين وخمسين ألف نسمة، بغالبية الأحداث الدموية التي عاشتها البلاد، خصوصاً بعد أن انتظمت في إطار ما بات يعرف بـ «دروع ليبيا» بطلب من رئيس المؤتمر الوطني الليبي المنتهي صلاحياته نوري بوسهمين، وباتت بمثابة الجناح العسكري لـ «الإخوان المسلمين».
الحلقة الثانية: «الكرامة» لا تكفي لمنع «الجماهيرية» من التحول «جماهيريات» بعضها إسلامي
في ٢٣ كانون الاول (ديسمبر) ٢٠١١، اعلن المجلس الوطني الانتقالي الليبي في احتفال كبير «تحرير ليبيا»، كانت جثة العقيد معمر القذافي لا تزال معروضة في حاوية مبرّدة للخضار في مدينة مصراتة، ولم يتوقف كثر عند ملابسات مقتله على رغم انها كانت تنبئ بالكثير عن المستقبل الدموي الذي ينتظر البلاد.
كان الجميع منشغلاً بأسئلة المستقبل، إذ طويت مرحلة الجماهيرية إلى غير رجعة، وبالفعل كان ثمة الكثير مما يدعو الى التفاؤل، بلاد شاسعة تمتلك احتياطات نفطية هائلة، وإطلالة تمتد الى نحو ٢٠٠٠ كيلومتر على المتوسط، وتعداد سكان لا يتجاوز السبعة ملايين نسمة، وآلاف حَمَلة الشهادات العليا من جامعات غربية من المبتعَثين ومن أبناء المعارضين الذين عادوا للتو الى البلاد، وربما الأهم من كل ذلك مجتمع غير مؤدلج غالبيته العظمى تدين بإسلام معتدل على المذهب المالكي، وهوية وطنية قطعت شوطاً كبيراً على طريق تجاوز الانتماءات ما قبل الدولتية.
لكن، حتى قبل ان يعلن تحرير البلاد، كان واضحاً ان كل المشاكل التي تم تجنب إثارتها خلال اشهر الثورة، ستنفجر في وجه المجلس الوطني والمكتب التنفيذي دفعة واحدة، إذ كانت الثورة ساهمت وبشكل كبير في تعميق الانقسام المجتمعي على اختلاف أشكاله في طول البلاد وعرضها، ليس فقط على خلفية الموقف من نظام القذافي الذي دفعت ثمنه قطاعات كبيرة من المجتمع الليبي كما حدث مع سكان سرت وبني وليد والتاورغيين والمشاشية، وانما ايضاً عبر نكء جراح قبلية وجهوية كان يعتقد انه قد طواها النسيان.
حال تواصل الممارسات الانتقامية من جانب بعض المليشيات دون التوافق على برنامج للمصالحة الوطنية يطوي صفحة الماضي عبر تسويات في إطار رؤية شاملة تقدمت بها غالبية الشخصيات الوطنية والمؤسسات الدولية ضمن برنامج للعدالة الانتقالية. واتضح سريعاً ان المجلس الوطني والمكتب التنفيذي لا يمتلكان القدرة على تنفيذ اي من الاستراتيجيات التي كثيراً ما اعلنا تبنيها على هذا الصعيد، وأن الكتائب المسلحة التي انتشرت بالمئات في طول البلاد وعرضها باتت لها مصالح خاصة ليس من السهل ان تتخلى عنها خصوصاً بعد ان رسخت وجودها وقوتها بشكل كبير.
امتلكت هذه الميليشيات كل عناصر القوة بدءاً من السلاح بكل أشكاله، وصولاً الى السيطرة على منشآت حيوية من بينها المطارات والموانئ ومصافي النفط، وعلى رغم المحاولات الحثيثة من جانب المجلس الوطني والحكومة التي انبثقت منه لدمجها في المؤسسات الامنية والعسكرية، إلا ان عوامل كثيرة حالت دون ذلك، أهمها انعدام الثقة بين هذه الميليشيات وقيادة المجلس الوطني الانتقالي الذي لم تكن تنظر اليه باعتباره يملك الشرعية لتمثيل المرحلة الانتقالية، بالنظر الى اتهام غالبية قياداته بأنها تتحدر من الشرق تارة، ولهواها العلماني تارة ثانية، ولكون غالبيتها من رموز النظام السابق التي انشقت عنه تارة ثالثة.
ويتهم تقرير لمجموعة الازمات الدولية أطرافاً خارجية بلعب دور كبير في رفض تسليم الميليشيات سلاحها، بل وبتقديم دعم مباشر الى بعضها، وينقل تقرير بعنوان «التحديات الامنية في حقبة ما بعد القذافي» عن مسؤول فرنسي ان باريس «صدمت من جهود الدوحة لتقديم تمويل منفصل لعبدالحكيم بلحاج»، ووصف المسؤول ذلك بأنه «لعبة خطيرة»، وأن قطر «تحاول تجاوز المجلس الوطني الانتقالي وتمويل ميليشيا إسلامية منفصلة».
وكحل لهذه المعضلة، تم اللجوء الى محاولة ربط الكتائب بمؤسسات الدولة من دون حلّها عبر تشكيل اطر جديدة، فتم تشكيل قوات «درع ليبيا» التي تعمل مع الجيش، واللجنة الامنية العليا مع الشرطة، ومُنحتا تفويضاً كبيراً من المجلس الانتقالي، قبل ان تتضح كارثية هذا القرار لاحقاً.
يذكر ان الديناميكيات التي كانت رسمت مسار الازمة في العاصمة طرابلس مختلفة إلى حد كبير عن تلك التي في الشرق بخاصة في بنغازي، وربما يعود ذلك إلى مسألتين اساسيتين، الاولى تتمثل في تحرر الشرق مبكراً على يد ابنائه من دون الحاجة الى تدخل من مناطق اخرى كما حصل في طرابلس، والثانية هي تحدر غالبية سكان بنغازي من قبائل متجانسة خلافاً للغرب الليبي الذي يتشكل من الكثير من القبائل التي لا تتمتع بعلاقات جيدة مع بعضها بعضاً.
وربما كان اكبر الأخطار الامنية التي أطلت برأسها مبكراً في الشرق هو ازدياد نشاط التنظيمات المتشددة فور انتهاء «الثورة»، إذ أُعلن رسمياً في شباط (فبراير) ٢٠١٢ عن ولادة تنظيم «انصار الشريعة»، وذلك بعد الانفصال عن «سرايا راف الله السحاتي»، وعقد مؤتمر علني في بنغازي تحت عنوان «الملتقى الاول لأنصار الشريعة» بحضور اكثر من ألف شخص في حزيران (يونيو) من العام ذاته، جاؤوا من إجدابيا ودرنة وسرت بعشرات العربات العسكرية التي ترفع علم القاعدة. ويرأس التنظيم محمد الزهاوي، وهو سجين سابق في سجن ابو سليم، وخلافاً لقيادات التنظيمات المشابهة، حرص الزهاوي على الظهور في مقابلات تلفزيونية لشرح رؤيته لكيفية إقامة الشريعة في ليبيا.
في درنة، استطاع متشددون ان يسيطروا على المدينة سريعاً، وأن يفرضوا قوانينهم عليها عبر تنظيم «انصار الشريعة» بقيادة سفيان بن قمو السائق السابق لأسامة بن لادن، والذي كان أُفرج عنه من سجون القذافي في إطار عملية المصالحة التي قادها سيف الإسلام القذافي مع «الجماعة الليبية المقاتلة». وتشير تقارير إلى نشاط التنظيم ايضاً في كل من إجدابيا وسرت، من دون ان يتضح الرابط التنظيمي بين كل هذه الفروع التي تنفي قطعياً ارتباطها بتنظيم القاعدة.
ولم تمض اشهر قليلة على تشكيل هذه الكتائب حتى استطاعت لفت أنظار العالم بأسره عقب اغتيال السفير الاميركي كريس ستيفنز وثلاثة اميركيين آخرين في مقر القنصلية في بنغازي في 11/9/2012، إذ اتهمت واشنطن تنظيم أنصار الشريعة بالمسؤولية، وتم إعلان فرعيه في بنغازي ودرنة كجماعتين إرهابيتين، وبعد نحو عامين تم اعتقال أحمد ابو ختالة احد المتهمين بالهجوم من جانب قوات اميركية.
سياسياً، كانت حالة التصحر هي الوصف الأنسب لحقيقة وضع المجتمع الليبي بعد اربعة عقود من تطبيق ما كان يعرف بقانون «تجريم الحزبية» الذي أصدره القذافي عام ١٩٧٢، ومع تحديد المجلس الوطني الانتقالي موعداً لانتخابات المؤتمر الوطني العام، سارعت التيارات الاسلامية للإعلان عن ولادة احزاب حتى قبل ان يصدر قانون بهذا الشأن، وأهم هذه الاحزاب:
- حزب «العدالة والبناء» الجناح السياسي لتنظيم الاخوان المسلمين الذي اعلن عن تشكيله في ٥ آذار ٢٠١٢، وتم اختيار محمد صوان الذي يتحدر من مدينة مصراتة رئيساً له.
- حزب «وطن» بقيادة أمير «الجماعة الليبية المقاتلة» ورئيس مجلس طرابلس العسكري عبدالحكيم بلحاج، ويدعو الى نظام ديموقراطي معتدل يكفل جميع حقوق المواطنين ويضمن التعددية وتطبيق الشريعة الاسلامية.
- حزب «الامة الوسط» بقيادة المنظّر الشرعي لـ «الجماعة الليبية المقاتلة» سامي الساعدي، ويوصف بأنه اكثر راديكالية من حزب بلحاج وضم غالبية اعضاء «الجماعة» سابقاً.
وأثبتت انتخابات عام ٢٠١٢ فشل التيارات الاسلامية في تأمين الغالبية في المؤتمر الوطني، إذ لم يحصل حزب «العدالة والبناء» إلا على ١٧ مقعداً من اصل ٨٠ مخصصة للأحزاب السياسية، وفيما فشل حزب «وطن» في الحصول على اي مقعد، نجح حزب «الامة الوسط» في إيصال مرشح واحد هو عبدالوهاب قايد، شقيق القيادي في تنظيم القاعدة ابو يحيى الليبي. وفي المقابل استطاع «تحالف القوى الوطنية» الذي يقوده محمود جبريل حصد ٣٩ مقعداً.
دقت النتائج ناقوس الخطر بالنسبة الى التيارات الاسلامية التي بدأت العمل بأساليب مختلفة للإمساك بدفة الحكم، اذ استطاعت نسج تحالفات أثبتت جدواها مع المستقلين الذين يمتلكون ١٢٠ مقعداً في البرلمان، وشنّت حملة كبيرة ضد جبريل، واتهمه زعيم حزب العدالة والتنمية بأنه «حليف سابق» لمعمر القذافي تارة، وبأنه «علماني معاد للتيارات الاسلامية» تارة اخرى، قبل ان تتم الاطاحة به وبالآلاف غيره من الحياة السياسية الليبية عبر إقرار «قانون العزل السياسي» في 5 ايار 2013، وهو ما ساهم في توحيد الكثير من القوى ضد التيارات الإسلامية في ليبيا عموماً والإخوان المسلمين على وجه التحديد.
وبالتوازي مع معركة فرض «قانون العزل»، عمل تنظيم الاخوان على توطيد علاقته بـ «دروع ليبيا» التي يتحدر غالبية مقاتليها من مدينة مصراتة، وتنقسم رسمياً إلى ثلاث كتائب في شرق البلاد ووسطها وغربيها، وباتت بمثابة الجناح العسكري للتنظيم، على رغم حرص القائمين عليها على نفي أي علاقة رسمية بالتنظيم.
وازدادت ردود فعل الاخوان في ليبيا حدة تجاه معارضيهم بعد الإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي، ويرى السياسي الليبي محمود شمام ان انهيار حكم الاخوان في مصر دفع نظراءهم في ليبيا إلى «التخلي عن الخطاب المعتدل والتحالف مع المتشددين»، ويسجل ملاحظة هامة في هذا السياق، إذ يشير إلى «ارتباك رؤية واشنطن للوضع في ليبيا»، لأنها كانت «تراهن على الإسلام المعتدل ممثلاً بالإخوان»، ويقول إن «الأميركيين لا يملكون رؤية واضحة للوضع، وأنهم يعتمدون على البريطانيين في التعاطي مع هذا الملف الشائك».
وانعكست هذه الخلافات السياسية بمزيد من الفوضى الامنية في البلاد، وتمادي الميليشيات في انتهاكاتها، خصوصاً بعدما بدأت التظاهرات المطالبة بخروجها من المدن بالازدياد.
ففي 9/6/2013 قتل 31 من المتظاهرين المدنيين بإطلاق نار من جانب ميليشيا «درع ليبيا1» في منطقة «الكويفية» شمال بنغازي، حيث كانوا يتظاهرون مطالبين بتسليم الميليشيا اسلحتها للجيش وإخلاء المقر والابتعاد عن المظاهر المسلحة في المدينة. وفي 15/11/2013 اتهمت ميليشيا «درع ليبيا الوسطى» بقتل نحو 45 متظاهراً في حي «غرغور» جنوب العاصمة، كانوا يتظاهرون ضد سيطرة الميليشيات على مقار في المدينة.
وتقول الناشطة السياسية في طرابلس أحلام بن طابون إن «نفوذ تيار الإسلام السياسي بدأ مع تشكيل المؤتمر الوطني، وتكوين أذرع عسكرية تعمل لحساب بعض الكتل، وشراء الذمم لمساعدتهم في تمرير قراراتهم»، وأن سكان طرابلس عموماً «يرفضون هذه الأحزاب الدينية او قادتها، وأن المواجهات التي وقعت في العاصمة زادت من كره المواطنين لهذه الجماعات».
وعلى رغم التوتر الكبير والنقمة المتزايدة على تيارات الإسلام السياسي التي خلفتها هذه الاحداث، إلا ان رئيس المؤتمر الوطني المحسوب على الإسلاميين نوري بوسهمين اتخذ قراراً بتشكيل «غرفة ثوار ليبيا» وأوكل إليها حماية مداخل العاصمة ومخارجها، ليتضح لاحقاً ان الغرفة تتشكل بالأساس من قوات الدروع وبعض الكتائب الإسلامية الصغيرة، واتهمت الغرفة بالمسؤولية عن اختطاف رئيس الحكومة علي زيدان لساعات في 10/10/2013.
وتزامن كل ذلك مع فشل المؤتمر في تنفيذ أهم استحقاق أوكل إليه في قرار تشكيله، ويتمثل في وضع دستور للبلاد يشكل إطاراً للقوانين التي ستنظم عمل مؤسسات الدولة، ما دفع رئيس المؤتمر نوري بوسهمين الى تمرير قرار تمديد عمل المؤتمر من شباط إلى كانون الاول 2014.
ودفعت كل هذه التطورات إلى تشكل تيار معادٍ للإسلاميين في طرابلس على المستوى العسكري، إذ بدأت كتائب الزنتان تنتظم في مواجهة تزايدِ نفوذ كتائب الدروع التي تشكلت في غالبيتها من مقاتلي مصراتة، علماً ان الطرفين يقتسمان النفوذ الأكبر في العاصمة.
وبدأت كتيبتا الصواعق والقعقاع تظهران كقوتين رئيستين في المشهد، خصوصاً في جنوب طرابلس، حيث تسيطران على الكثير من المقار الامنية والمنشآت الحيوية، من بينها المطار الدولي. واتهمت هذه الكتائب بأنها تنسق مع رئيس التحالف الوطني الليبي محمود جبريل الذي اضطر الى مغادرة البلاد بعد صدور قانون العزل تحت التهديد بالقتل على ما اكد في اكثر من مناسبة. ويستند الاتهام في جزء منه إلى ان عثمان أمليقطة، احد قادة الصواعق والقعقاع، هو شقيق رئيس لجنة التسيير في تحالف القوى الوطنية عبدالمجيد أمليقطة.
ودخل لاعب جديد إلى المشهد هو اللواء خليفة حفتر الذي كان على رأس عمله في الجيش بإعلانه حل البرلمان والحكومة، فتم إعلان إقالته على الفور، لتكشف تطورات الامور لاحقاً ان ثمة تحالفاً بينه وبين كتائب الزنتان التي امهلت بتاريخ 21/2/2014 المؤتمر الوطني العام خمس ساعات للاستقالة أو مواجهة تدخل عسكري، ما دفع النواب الذين كانوا مجتمعين يومها الى الهروب من القاعة على وجه السرعة.
وعلى رغم حل الأزمة بعد تهديد الدروع بالرد بقوة على تهديد كتائب الزنتان، إلا ان البرلمان اضطر على وقع التظاهرات المنددة بسياساته للعدول عن تمديد ولايته، والتوافق على تنظيم انتخابات مبكرة لبرلمان جديد.
وعلى خلفية هذه الأحداث، ازدادت الخلافات بين التيارات الإسلامية ورئيس الوزراء علي زيدان الذي اتهمها في اكثر من مناسبة بعرقلة عمل الحكومة، وتتويجاً لضغوط استمرت لأكثر من عام لدفعه الى الاستقالة، شكلت زيارة زيدان الى القاهرة ولقاؤه القيادة المصرية الجديد الشعرة التي قصمت ظهر البعير. وبعد محاولات دؤوبة استطاع المؤتمر الوطني الإطاحة به في 12/3/2014 وتكليف وزير الدفاع عبدالله الثاني بتسيير الاعمال، واتهم زيدان الذي غادر البلاد إلى المانيا قبل ان تصدر بحقه مذكرة توقيف، تنظيم الاخوان المسلمين بالوقوف وراء إقالته.
تعمقت الهوة التي باتت تفصل الإخوة الأعداء، وبات انعدام الثقة هو العنصر الوحيد الذي يحكم تصرفات التيارات الإسلامية ومعارضيها على رغم تحديد موعد الانتخابات في 26/06/2014.
وفي هذه الاجواء اعلن اللواء حفتر في 16 أيار بدء ما اطلق عليها اسم «عملية الكرامة» العسكرية ضد الجماعات المتشددة في بنغازي، وفي اليوم التالي اعلن ان المؤتمر الوطني العام الليبي «غير شرعي ولم يعد الشعب الليبي»، متسلحاً بانضمام الكثير من ضباط الجيش الليبي في المنطقة الشرقية لتحركه، وفي مقدمهم قائد قوات الصاعقة في بنغازي ونيس بوخمادة، وكذلك كتائب الزنتان في طرابلس.
وسريعاً جاء الرد من نوري بوسهمين رئيس المؤتمر الوطني الذي وصف العملية بالمحاولة الانقلابية، وحذا حذوه الاخوان المسلمين وبعض الميليشيات الإسلامية كغرفة عمليات ليبيا. وطالب بوسهمين عدداً من الميليشيات بالدفاع عن موقف المؤتمر، فانتشرت قوات الدروع في طرابلس، وانضم جناحها في الشرق الى الميليشيات المتشددة للتصدي لحفتر.
لم يستطع حفتر تحقيق أي انجازات عسكرية كبرى في بنغازي وطرابلس على رغم التأييد العسكري والشعبي الذي حظي به. وتقول بعض المصادر المقربة منه إنه «توقع تلقي دعم اقليمي في مواجهته الإسلاميين المتشددين في الشرق والاخوان في الغرب»، إلا ان ذلك لم يحصل، ما تسبب بتراجع تحركه، ومغادرته ليبيا إلى مصر منتصف تموز سعياً الى حشد التأييد والدعم.
قبل ذلك، وفي 25 حزيران كانت الانتخابات النيابية قد أُجريت في ظل اوضاع امنية صعبة للغاية، وأظهرت النتائج الاولية الخسارة الفادحة للإخوان والتيارات الإسلامية مجدداً، إذ لم يحصدوا سوى 23 مقعداً من اصل 200، وتوزعت المقاعد المتبقية على التيارات المدنية الليبرالية والفيدراليين والمستقلين.
تقول احلام بن طابون إن «الجميع توقعوا مسبقاً ان الحرب ستقع بعد صدور نتائج الانتخابات الاولية، وأن الاخوان سيعلنون الحرب على مجلس النواب الجديد».
وبالفعل اندلعت معارك هي الاكبر في طرابلس منذ مقتل العقيد معمر القذافي، حيث هاجمت قوات محسوبة على التيارات الإسلامية وفي مقدمها الدروع كتائب الزنتان التي تسيطر على جنوب العاصمة بما فيها المطار الدولي، بحجة «استكمال ثورة السابع عشر من فبراير»، وأدى القصف الى دمار كبير في البنية التحتية للمطار وتدمير نحو 20 طائرة وإحراقها.
وتصف احلام بن طابون التي لا تزال تعيش في طرابلس الوضع بالسيئ جداً، وتوضح ان «عجز الميليشيات عن السيطرة على المطار وجنوب العاصمة دفعها لضرب خزانات النفط»، وتقول إن الحركة داخل طرابلس «صعبة جداً، وثمة نقص حاد في المحروقات على اختلاف أشكالها، وكذلك المواد الغذائية».
وفي بنغازي استطاع تحالف قوى ضم تنظيم «انصار الشريعة» و «17 فبراير» و «راف الله السحاتي» مع «درع ليبيا 1» إلحاق هزيمة كبيرة بقوات الصاعقة في 29/7/2014، حيث تمت السيطرة على مقارهم في المدينة، وظهر زعيم «أنصار الشريعة» محمد الزهاوي جنباً إلى جنب وسام بن حميد قائد «درع ليبيا 1» في مقر الصاعقة يعلنان الانتصار على قوات حفتر تحت اسم تحالف جديد هو «مجلس شورى ثوار بنغازي». وفي اليوم التالي أعلن الزهاوي عبر إذاعة محلية أن مدينة بنغازي باتت «إمارة إسلامية جديدة» مطالباً سكان المدينة بالاعتراف بذلك.
أثبتت نتائج الانتخابات التي صدرت بعد العملية بعشرين يوماً صحة النتائج الأولية، وتم إعلانها في خضم أزمة كبيرة تعيشها العاصمة على خلفية القتال الذي ادى الى سحب الكثير من البعثات الديبلوماسية ومغادرة العمالة الاجنبية.
ويرى محمود شمام أن «الكرة الآن في ملعب التشكيلات المسلحة وكل الاحتمالات واردة بما فيها الانقلاب العسكري»، وأن على رغم الدعم الكبير الذي حظيت به العملية الديموقراطية وجلسة البرلمان التي عقدت في مدينة طبرق بغياب ممثلي الكتل الإسلامية، إلا ان هذا التيار و «إن خسر الانتخابات موجود على الارض ويستطيع ان يُحدث الكثير من العنف»، ويرى ان ثمة حاجة ماسة الى تدخل دولي «محدود» لمساعدة ليبيا ونزع سلاح الميليشيات، ويعتقد ان الدول المرجحة للقيام بذلك هي «الدول الاوروبية المطلة على المتوسط والقريبة منه، وليس حلف الناتو».
ولا يزال الإسلاميون على اختلاف مشاربهم يرفضون الاعتراف بالبرلمان الجديد، بحجة عقده في طبرق خلافاً لدعوة رئيس المؤتمر الوطني المنتهي صلاحيته نوري بوسهمين.
وفي ظل عدم قدرة البرلمان على العودة إلى طرابلس او نقل أعماله موقتاً إلى بنغازي، يبدو ان إقامته في مدينة طبرق القريبة من الحدود المصرية ستطول.
وعلى رغم ما صدر من إشارات عن مصر توحي بتزايد القلق مما يجري على حدودها الغربية، إلا ان شمام يرى ان لا مؤشرات على احتمال تدخل قريب، وأن جل ما ستقوم به هو «تدعيم قواتها على الحدود الليبية»، متسائلاً «إن كانت ستقدم الدعم الى القوى التي تواجه المتشددين؟!» في إشارة الى عملية الكرامة التي يقودها خليفة حفتر.
ويبدو أن الأوضاع الامنية في البلاد تتجه نحو مزيد من التدهور في ظل التردد الدولي والإقليمي والعربي في التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويخشى ان تؤدي الحرب الأهلية التي باتت تتخذ أشكالاً متنوعة إلى تقسيم البلاد، ليس إلى ثلاثة أقاليم وفق الصيغة التي كانت قائمة أيام الملكية في «طرابلس وبرقة وفزان»، وإنما إلى كانتونات قبلية، سيكون بينها إمارة إسلامية على ما يبدو.
عن الحياة اللندنية
المزيد على دنيا الوطن .. http://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2015/05/15/714519.html#ixzz3aCB9Amk5
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق