أيها الواقفون على أطلال العالم العربي إفيقوا
أيها الواقفون على أطلال العالم العربي المتهاوي من المحيط إلى الخليج إفيقوا.. فالبكاء على الأطلال لا يعيد الأمجاد، والعالم العربي لم يكن يوما عالما موحدا ولا مجيدا لتأسفوا عليه، وشعوبه لم تبني حضارة عريقة تستحق الذكر، باستثناء حروب داحس والغبراء زمن الصحراء، وثقافة المعلقات زمن الجاهلية، والفتن في صدر الإسلام، والصراع على السلطة والثروة زمن الفقهاء، وقصائد المدح والنفاق زمن الخلفاء، وخطاب الكذب والدجل زمن الملوك والرؤساء..
الوطن العربي اليوم هو نتيجة طبيعية لهذا التاريخ الدموي الطويل الذي أسس لثقافة القبيلة بلغة الموتى، وهو لا يملك اليوم صيغة بديلة لإئتلاف العسكر والمؤسسة الدينية التي لا زالت قائمة منذ عصر اليزيد بن معاوية، والديمقراطية ليست حلا لأنها وصفة مستحيلة في مجتمع لا يوجد في قاموس لغته العربية كلمة “ديمقراطية”، وترجمتها من قاموس الغرب لا تغير من هذا الواقع البئيس شيئا..
المشكلة أكبر من أن تحل بشعارات الإصلاح الجميلة، لأن أسس البيت ودعائمه وحيطانه خربها تحالف الكهنة مع الطغاة، وأصبح الهدم وإعادة البناء هو الحل، وكل عمليات الترقيع والتجميل لا يمكنها أن تصمد في وجه الإعصار الذي يعصف بأوطان العرب اليوم من الماء إلى الماء..
إدرسوا التاريخ، وإبحثوا في مراجع الشرق والغرب، لتكتشفوا أنه وبإستثناء إبن خلدون وإبن بطوطة، لم يكن للعرب علماء قدموا للحضارة الإنسانية إبداعا علميا يستحق الإشادة.. وستعلمون علم اليقين أن كل العباقرة كانوا مسلمين من أصول غير عربية، وستدركون أن العرب كلما إستنجدوا بالعروبة أذلهم الله، وكلما إعتصمو بحبل الإسلام أعزهم وأدان لهم الدنيا..
في الجامعات الغربية العريقة، وفي كتب المشتشرقين، لا حديث إلا عن فضل العلماء المسلمين وإسهامات الحضارة الإسلامية في مسيرة النهضة الإنسانية.. والذين يتحدثون اليوم عن العروبة وأمجاد العروبة إنما يسوقون للوهم ويبيعون الناس السراب..
من أضاع الأندلس بالأمس غير الممالك العرب؟.. ومن أضاع فلسطين اليوم غير حكام العرب؟.. من خان القضية وطعن قلب الأمة بخنجر الغدر وترك الجرح نازفا يقطر دما وحزنا غير زعماء العرب؟.. من حكم البلاد وإستعبد العباد ورهن السيادة، وباع ثروات الشعوب وهرب العمولات الحرام، وحول الأوطان إلى وكالات تجارية للغرب غير الملوك والرئساء العرب؟.. من عثى في الخلق ظلما وإستبدادا، وسعى في الأرض خرابا وفسادا، وحول أيام العرب إلى ليل مظلم طويل ومستقبلهم إلى كابوس مخيف غير الحكام العرب؟..
من إستدعى الفوضى وزرع بذور القتل وصدّر خيول الموت إلى ليبيا ومصر وسورية والعراق واليمن والبحرين غير أولياء الأمر العرب؟.. ولماذا تنزف الدماء الطاهرة وتضرب الفتن المتنقلة أطنابها في جسد الأمة فتخبط خبط عشواء بإسم الإسلام كي لا يبقى للعرب دين يجمعهم فيعودوا كما كانوا أول مرة على سنة الآباء والأجداد، قبائل وطوائف وعشائر يتصارعون في الداخل إلى أن يفني بعضهم بعضا غير حكام الزيت العرب؟..
دلّوني على مشروع عربي واحد غيّــر من مصير الأمة ووجه المنطقة، وأفاد الأوطان ورفع من شأن المواطنين على إمتداد هذا العالم المسمى بالعربي، بالرغم مما حباه الله من خيرات ومقدرات وترك فيه ناموسه المسطور في رق منتشور ليتعلم منه الناس سر الحق والخلق والإبداع.. وأسمى معاني الخير والمحبة والجمال؟..
دلوني على حاكم عربي واحد أقام العدل ووزع الثروات على المواطنين بالتساوي، وشجع حرية التفكير والتعبير والإبداع وحرية المعتقد؟.. وحده المهاجر من ينعم بمثل هذه الحقوق في الغرب، فيما المواطن يعيش في الحجر الصحي وكأنه في مصحة للأمراض العقلية، فإما أن يقبل بما يقوله إعلام الطاغوت أو يفقد قدراته العقلية..
وكون العرب يعيشون اليوم في عصر ليس عصرهم، فلأنهم لم يدركوا بعد أن ثقافتهم الجاهلية لا يمكنها أن تدخلهم زمن الحداثة بمجرد إستيراد بعض الأفكار والنماذج من الغرب.. هذه وصفة مستحيلة لأنها ضد طبيعة الأشياء وحكم التجربة التي يقول بها التاريخ..
والتغيير لن يكون بزلزال الربيع العربي الذي فشل، لسبب بسيط، وهو أن الزلزال الحقيقي قد حدث في عصر الرسول الأعظم حين أعلنها ثورة بإسم السماء على الملوك والقياسرة، ورفض الملك الذي عرضته عليه قريش بديلا عن ملكوت السماء، ووضع للمسلمين إطارا إسمه “أمــة”، وترك لهم حبلا يصلهم بمالك الملك والملوك إسمه القرآن..
لكن الملوك الذين فقدوا سلطة الإقطاع لصالح سلطة الشعوب وفق معادلة الشورى التي أوصاهم بها تعالى، استنجدوا بالفقهاء ليساعدوهم على إستعادة سلطتهم من السماء، فوضعوا لهم إسلاما مشوها إلى أقصى الحدود، وأفتوا لهم بقطع رقاب المعارضين وأطراف المشككين من خلاف لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن في مجتمع سمته الأساسية الأمية والجهل، وحذروا الناس من تدبُُّر الفرقان بالعقل كما أمرهم صاحب الأمر، وحرموا الفلسفة، وشوهوا سنة جدهم إبراهيم الخليل صاحب العهد الذي أمر تعالى نبيه محمد بإتباع ملته، وأستبدلوها بسنة اليهود.. فضاع الدين وضاع العقل وأصبح النفاق من مقتضيات الإيمان، لإستحالة العيش إلا بوجهين، وجه مع الله بالليل ووجه مع السلطة بالنهار.
والذين يطالبون اليوم رجال الدين بتجديد الدين إنما يحرصون على أن يبقى الإسلام تحت سلطة الكهنوت، لأن المثقف وحده من يستطيع طرح الأسئلة الحقيقية على النص ويبحث لها عن جواب في ممارسة الناس وليس في ثقافة القبور التي يستند إليها الكهنة لتضليل الناس وتدجينهم، لأنه لو فعل المثقف واستنطق القرآن لباح له بما لا يتصوره عقل، ولتفجرت الفضائح وكشف المستور وأصبحت شرعية الكاهن والسلطان في مهب الريح..
إنظروا إلى ما حدث لفرج فودة ونصر حامد أبو زيد، وما لاقاه محمد أركون في العصر الحديث وغيره، لا يهم إن كانوا على صواب أم لا، لأنهم مارسوا الإجتهاد بالفكر لا بالخنجر والرصاص.. وهو نفس المصير الذي سبقهم إليه منصور الحلاج من قبل، بل حتى إبن رشد تم تكفيره وحرق كتبه فهرب من الأندلس إلى مراكش حيث مات هما وكمدا..
أين المثقف العربي الشجاع ليفضح هذه الكارثة ويسمي الأشياء بأسمائها؟.. ولماذا فضل الصمت والإستقالة من مهمة التنوير، بعد أن إكتشف أن بضاعته القديمة لم تحصن الشعوب ولم تصنع مواطنين أقوياء لهم المناعة الثقافية للصمود والمواجهة؟..
بماذا أسهم العرب زمن العولمة وثورة المعرفة والمعلومات بغير ثقافة الذبح والقتل والخراب التي تنشرها “داعش” اليوم؟.. وهل “داعش” جاءت إلى أوطاننا من الغرب، بثقافة الغرب، لتنشر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على نمط الغرب؟.. أليست هي المولود الطبيعي لهذا التحالف الشيطاني بين الكاهن والحاكم؟..
ولماذا تهاجر العقول كالطيور من أوطاننا بحثا عن الحرية ومساحات من الإحترام والجمال حيث يتنفس الإبداع ويزهر العطاء؟.. ولماذا يهرب الشباب في قوارب الموت بحثا عن الخبز والكرامة في بلاد النصارى؟.. وهل يهرب القط من الزفة؟..
أين الأمن الغذائي، والثورة الصناعية الكبرى، ومشاريع الإندماج، وحلم الوحدة؟.. أين الحريات، أين الكرامة، بل أين الخبز وما يستر به المواطن عورته من برد الشتاء وحر الصيف؟.. لا شيىء تحقق غير وعود وكلمات بلا معنى.. منذ دهور والعرب يعيشون كالفئران في مجارير محطات الإنتظار، يقتاتون على ألياف كلمات الحكام ويسحقون تحت عجلات فتاوى الوعاض والكهنة الذين تحولوا إلى قضاة يفتون بقتل الناس وتفريقهم عن زوجاتهم وحجز ممتلكاتهم ومنع كتبهم وأفكارهم من التداول، ويشاهدون الناس يسحلون لأنهم يختلفون عنهم في العقيدة، ولا ينهون عن منكر وكأنهم حلفاء الشيطان ينطقون فقط بما يرضي الحاكم حتى لو أغضب صمتهم الله..
ماذا حصدنا من تاريخنا المجيد غير الجهل والفقر والمرض والتخلف في كل شيىء؟.. الأمم تتقدم إلى الأمام ونحن نتأخر إلى الوراء.. فيا ليتنا بقينا حيث كنا بالأمس قبل أن نكتشف أننا إنتقلنا إلى عصر “داعش” بسرعة الضوء، حين ركبنا قطار الحكام العملاء والوعاض الجهلة..
كل مشاريع العرب كانت أوهاما، ووعود الملوك والرئساء كانت سرابا، والمستقبل العربي الذي بدأ غامضا ظل مظلما وسيكون دامسا أكثر وقاتما أكثر مما هو الآن.. ولا عاصم لنا اليوم من أمر الله، وليس فينا من يحمينا من أنفسنا بعد أن تخلينا عن ديننا وحريتنا وحقوقنا وكرامتنا وحولنا عقولنا إلى مكب للنفايات..
لو كانت لي السلطة والقدرة لختمت بالشمع الأحمر كل فضائيات العرب، ولقطعت أسنة وأصابع كل وعاضهم الجهلة، ولخصيت ملوكهم الذين يمارسون الجنس على شعوبهم المقهورة في مخافر الشرطة وأقبية المخابرات، ولفقأت أعين بصاصيهم الذين يحصون أنفاس الشرفاء، ولوضعت على أفواه المدافع رؤوس جنرالاتهم وقذفت بها إسرائيل..
إن الدعوة التي ترفع اليوم من قبل بعض الحكام الوصوليين مطالبة الأزهر بتجديد الدين ليتناغم مع مقتضيات العصر ليست دعوة بريئة، بل دعوة مشبوهة، هدفها إعادة إنتاج إسلام على مقاس العسكر، لأن من يريد أن يتصدى للفكر الخاطىء الذي يسيء لللإسلام والمسلمين ويدمر الأمة، عليه أن يبدأ بتحرير الإسلام من كهنوت رجال الدين أولا، وأن يمد يده إلى إخوانه في سورية بدل التحالف حد التماهي مع “إسرائيل”، وأن لا يهدد إيران بالحرب دفاعا عن قطاع الطرق من أعراب الزيت وهو يعلم علم اليقين أن من ساعدوه على الإنقلاب هم من صنعوا داعش وأخواتها وصدروها لتعثوا قتلا وخرابا في سورية والعراق ولبنان وتشوه الإسلام والمسلمين..
لأن الدعوة إلى تجديد الدين تبدأ بعتق الإنسان من ظلام الجهل وقسوة الفقر وألم المرض ومستنقع التخلف، وأن تعتقه من معتقل السلطة، ليتحول إلى كائن قوي وحر مفكر يحلق كالطير في سماء العرب.. كما وأن الدعوة لتجديد الدين لا يمكنها أن تنجح في بيئة سياسية موبوءة بالكذب والخداع والنفاق والإستبداد والفساد، وفي ثقافة تدعو الناس لتمجيد العسكر والتعايش مع الظلم والجوع والقهر في إنتظار الموت
المزيد على دنيا الوطن .. http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2015/06/13/369132.html#ixzz3d2MqgzWd
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق