حريم السلطان .. حواديت الدم في عرش الخلافة
عندما نتحدث عن الحضارة الإسلامية فإننا لا نستطيع أبدا اغفال دور الترك ، فقد لعب الترك منذ دخولهم الإسلام أدوارا كثيرة في غالبها كانت من أسباب نهضة الحضارة الإسلامية واستحقوا عن جدارة أن يشكلوا العمود الثالث الذي قامت عليه الثقافة الإسلامية بجانب العرب والفرس ..
كان للترك كغيرهم أيضا أدوارا سياسية مهمة في توجهات الدولة الإسلامية منذ العصر العباسي بجانب التأثير الثقافي حيث توغلوا في بلاط الخلفاء العباسيين وبعد ذلك استطاعوا اقامة دول وسلطنات كان أهمها دولة السلاجقة الأتراك في الشام والأناضول ..
وفي لحظة من لحظات ضعف الامة استطاع “عثمان بن أرطرغل” تأسيس دولة قوية في الأناضول كانت ولفترة طويلة حائط صد منيع ضد الدولة البيزنطية والغرب وقامت بحماية العالم الإسلامي لمدة طويلة ..
وتولى العرش بعد عثمان ابنه الاكبر “أورخان غازي” الذي استطاع أن يوسع دولة أبيه وتظهر في عهده الدولة العثمانية الوليدة بشكل أوضح وأكبر فقام بتأسيس الجيش الانكشاري الشهير وخاض المعارك الكبيرة ضد الروم البيزنطيين ، وبعد أورخان استمر نهج السلاطين العثمانيين بعيدا عن الخوض في صراعات اسلامية داخلية والتفرغ لثغور العالم الإسلامي مع الروم البيزنطيين حتى وصل الحكم لمحمد غازي الفاتح الذي استطاع وبشكل نهائي انهاء الدولة البيزنطية ودخول القسطنطينية التي لم يفتحها المسلمون عبر العصور المختلفة لمناعتها ..
هنا تبدأ القصة تأخذ منحى آخر حسب سنن التاريخ المعهودة فبعد هؤلاء الأجداد يأتي دائما من الاجيال من لم يؤسس بل من ولد في عاصمة الروم ورآها عاصمة جاهزة لملكه ، وصل العرش ل “بايزيد الثاني” الذي تبدأ معه قصص الدم ..
كان العامل الأقوى في قصص الدم هو نظرة سلاطين اسطنبول جنوبا وبداية اشتعال الصراعات الاسلامية الاسلامية وكان محور الصراع هو ” الخلافة ” .. هذا الحلم الذي كان سببا في اشتعال الصراعات الإسلامية عبر العصور المختلفة ..
1) حلم الخلافة وبحور الدم
“سليم الأول” الشاب الملقب ب “الرهيب” بن السلطان بايزيد لم يكن طموحه ان يكون سلطانا فحسب و لم تعجبه سياسات أبيه التي كانت تشبه إلى حد كبير سياسة أجداده الأوائل فاستطاع ولأول مرة في تاريخ بني عثمان فتح باب الدم الذي لم ينغلق بعده ، فانقلب على أبيه وقام بنفيه بمساعدة الجيش الانكشاري وحسب بعض الروايات أنه دس له السم ليموت خوفا من أي محاولة لعودته للحكم مرة اخرى ..
سليم وبعد موت أبيه توجه بجيشه أولا لمحاربة اخوته لا العدو ، فقبض على أولاد اخوته الذكور جميعا المقيمين في بورصة وامر بقتلهم ثم كان ان فر أخيه “كركود” إلى الجبال خوفا فأرسل خلفه إلى ان قبض عليه وقام باعدامه ثم قام اخيرا بقتل أخيه الاكثر قوة ومنافسه “أحمد” قرب مدينة يكي شهر في إبريل من عام 1513
واستقرت السلطة في يد سليم دون اي منافس وبدأ بعد ذلك التجهيز للمعركة ولكن ايضا ليس ضد العدو الغربي المعتاد بل ضد أهم دولتين إسلاميتين في العالم وقتها “سلطنة المماليك” في مصر والشام و “سلطنة الصفويين” في إيران ورغم انه في هذا التوقيت تقريبا كان أهل “الأندلس” يستغيثون به لنجدتهم إلا أنه تحرك صوب مصر وإيران لاهثا وراء حلم ” الخلافة ” ..
كانت القاهرة تمثل حلما كبيرا للسلطان سليم ليس فقط لكونها عاصمة مصر الدولة الكبرى والمهمة ولكن ايضا لأن بها ذلك الكرسي الذي سالت من أجله الدماء لقرون “عرش الخلافة ” فقد كانت القاهرة مقرا للخلافة العباسية الشرعية لعامة المسلمين في العالم .. وبعد حروب ومعارك شهيرة أهمها مرج دابق والريدانية استطاع سليم دخول القاهرة واعدام طومان باي على ابوابها واجبار الخليفة العباسي على التنازل عن الخلافة ..
منذ هذا التاريخ 23 يناير 1517 لم يعد السلطان العثماني سلطانا فقط بل أصبح أمير المؤمنين وخليفة المسلمين ومنذ هذه اللحظة يصبح عرش السلطنة عرشا ممزوجا بالدماء ..
2) قتل الأبناء
ظل ما قام به ” سليم الأول ” مع والده بايزيد امرا مزعجا ومؤرقا لكل سلطان يأتي من بعده ، اعتلى سليمان القانوني العرش بعد أبيه وبلغت الدولة في عهده أوج قوتها العظمى وتوجهت ناحية اوربا ووصلت حدودها أقصى اتساع فاصبح سلطان اسطنبول ليس فقط سلطان أو خليفة بل حصل على لقب جديد هو “سلطان العالم”
لكن ” سلطان العالم ” أمر وبشكل مباشر وأمام ناظريه بقتل ابنه البكر وولي عهده “مصطفى” في خيمته شنقا ثم أمر باعدام حفيده منه وبعد ذلك بسنوات ايضا جاءه رأس ابنه الثاني ” بايزيد ” الذي حاول التمرد على أبيه مع رؤوس كل احفاده الذكور منه ..
3) سفك الدم “بروتوكول” سلطاني :
بعد هذه الأحداث جميعا بات عرفا معتبرا ومقبولا – بل وعدم القيام به يعد شذوذا – أن يقوم السلطان الجديد بقتل أخوته الذكور أمانا له ولملكه، صحيح أن ” مراد الثالث ” لم يقم بذلك ولكن لسبب واحد فقط هو أنه لم يكن له أخوة ذكور في الأساس ، ولكن هو نفسه أنجب 8 من الذكور وبعد وفاته مباشرة صعد إلى العرش ابنه “محمد الثالث” على عظام اخوته السبعة بعد أن قتلهم جميعا ..
أما السلطان “أحمد الأول” لم يرد بشكل موثق ما قام به مع اخوته في العموم ولكن يبدو أنه كسر القاعدة لأن له أخ وحيد تم توثيق حياته وتسبب ذلك في مزيد من الدم لعقود طويلة .. فأخيه الوحيد “مصطفى الأول” أصبح هو السلطان بعد انقلابه على أخيه وبعد ذلك قام ابن أخيه “المعزول” بدوره بالانقلاب عليه فكان السلطان “عثمان الثاني” ، ولكن وبعد اقل من عام استطاع “مصطفى الأول” العودة من جديد للعرش بعد قتل ابن اخيه نهائيا .. ولكن وبسلسال دم غير مسبوق يظهر في الأحداث الابن الثاني لأخيه لينقلب عليه ويقضي عليه نهائيا وكأن القدر يأبى إلا أن يكون “أحمد الاول” وأبناؤه سلاطين وانه لو كان أمر بقتل أخيه منذ البداية لما كان حدث كل هذا ..
لم يكن ل “مراد الرابع” أولاد ذكور فمات في هدوء وتولى العرش من بعده أخيه “إبراهيم” .. ولكن لا يخلو المشهد هنا من نكتة أيضا فإبراهيم حين مات أخوه لم يكن في قصره بل كان مسجونا منذ سنوات بأمر من أخيه الذي لو أنجب ولدا لكان أمر بقتله مباشرة .. ويروي المؤرخين أنه حين جاءه العسكر للسجن وقالوا له انك ستصبح السلطان رفض بشدة وقال انه يريد ان يبقى طيلة حياته في السجن لأنه كان يظن ان هذه مكيدة من أخيه ليختبره اذا كان طامعا في السلطة ام لا ..
4) قصة القفص الفخم :
بعد هذه الأحداث ابتدع سلاطين اسطنبول فكرة جديدة وهي “القفص الفخم” وهو عبارة عن سجن فخم كبير اشبه بالقصر وحاط بأسوار عالية في بورصة يسجن فيه السلطان القائم اخوته الذكور ولا يصرح لهم الخروج منه أبدا ..
والقفص هو الذي أتى منه السلطان العثماني “سليمان الثاني” حيث تمرد الجيش على أخيه “محمد الرابع” وعزلوه واخرجوا سليمان من القفص وأعلنوه سلطانا .. وخرج منه أيضا بشكل سلمي السلطان ” أحمد الثاني” ليصبح سلطانا بعد وفاة أخيه سليمان ..
ظل القفص هو المنهج وظل العزل والانقلاب هو الوضع السائد الذي قد يخلو من بعض الاستثناءات بل أن التـأريخ ببداية أفول الدولة العثمانية جرت العادة أن يبدأ بحادث “انتحار” والذي ربما يكون اغتيال للسلطان “عبد العزيز” بعد ان تم عزله رسميا ونفيه .. وخلفه آخر 5 سلاطين تم عزلهم واحدا تلو اللآخر وتعيين اخوتهم او ابناء اخوتهم حتى آخر سلطان عثماني “محمد السادس” ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق